مقالة خاصة: بعد مرور 69 عاما لا تزال روح باندونغ حية في الجنوب العالمي

التاريخ: 2024-04-22 المصدر: شينخوا
fontLarger fontSmaller

في الصورة الأرشيفية، وفود حكومية من 29 دولة آسيوية وإفريقية تحضر مؤتمر آسيا-إفريقيا في باندونغ، إندونيسيا، الذي عقد في الفترة من 18 حتى 24 أبريل 1955. (شينخوا)

جاكرتا 21 أبريل 2024 (شينخوا) علقت الرئيسة الفخرية الراحلة لجمهورية الصين الشعبية سونغ تشينغ لينغ، على مدينة باندونغ الإندونيسية قائلة، إنه "على مر التاريخ، لم تفز سوى مدن قليلة بقلوب وعقول الكثيرين كما فعلت باندونغ".

عقد المؤتمر الآسيوي-الإفريقي التاريخي، المعروف أيضا باسم مؤتمر باندونغ، في المدينة يوم 18 أبريل 1955. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أتحدت فيها دول الجنوب العالمي لمعارضة الإمبريالية والاستعمار دفاعا عن حقوقها السيادية وعن عالم أكثر إنصافا.

واقترح قادة وممثلو 29 دولة آسيوية وإفريقية، حصلت على الاستقلال حديثا بعد عقود من حرمانها بقسوة على يد المستعمرين الغربيين، روح باندونغ وفي القلب منها "التضامن والصداقة والتعاون"، وأنشأوا حركة عدم الانحياز والتعاون الجنوبي الجنوبي.

واليوم، وبعد مرور قرابة سبعة عقود على انعقاد المؤتمر، لا تزال روح باندونغ مستمرة وتلهم الدول الواقعة في الجنوب العالمي للشروع في مسار جديد من التنمية المشتركة من خلال التعاون المربح للجميع في إطار مبادرة الحزام والطريق ومنصات أخرى.

في الصورة الملتقطة يوم 4 فبراير 2023، مشهد لمعبد برامبانان وفي الخلفية جبل ميرابي في جاوة الوسطى، إندونيسيا. (شينخوا)

-- ميلاد آسيا جديدة وإفريقيا جديدة

تتمتع باندونغ التي تقع على ارتفاع 768 مترا فوق سطح البحر، بدرجات حرارة أكثر برودة على مدار العام مقارنة بمعظم المدن الإندونيسية الأخرى. وخلال فترة الاستعمار الهولندي، كانت تعرف المدينة باسم "باريس جاوة".

وفي 1809، لتحسين النظام الدفاعي في جزيرة جاوة وتسهيل نقل الجنود والإمدادات، أمر هيرمان ويليم ديندلز الحاكم العام للهند الشرقية الهولندية، بإنشاء طريق يمتد نحو ألف كم عبر جزيرة جاوة من الغرب إلى الشرق، والذي تم تغيير اسمه فيما بعد لشارع آسيا-إفريقيا.

   وخلال مراسم افتتاح المؤتمر الآسيوي-الإفريقي، في مبنى ناصع البياض مكون من ثلاثة طوابق على جانب الشارع، دعا سوكارنو، أول رئيس إندونيسي، إلى الصحوة نيابة عن دول الجنوب.

وأشار سوكارنو في كلمته، إلى أن "هذا هو أول مؤتمر عابر للقارات للملونين في تاريخ البشرية".

وقال سوكارنو إنه "بغض النظر عن مكان أو زمان أو شكل الاستعمار، فهو شيء خبيث ويجب استئصاله من على وجه الأرض".

وأضاف "آمل أن يعطي ذلك دليلا على حقيقة أن نحن القادة الآسيويين والأفارقة ندرك أن آسيا وإفريقيا لا يمكن أن تزدهرا إلا من خلال الاتحاد، وأنه حتى سلامة العالم بأسره لا يمكن ضمانها من دون اتحاد آسيا وإفريقيا"، و"آمل أن يوجه هذا المؤتمر البشرية ويرشدها إلى الطريق الذي يجب أن تسلكه لتحقيق السلامة والسلام. وآمل أن يعطي دليلا على أن آسيا وإفريقيا ولدتا من جديد، بل ولدت آسيا جديدة وإفريقيا جديدة".

واقترح رئيس مجلس الدولة الصيني آنذاك تشو إن لاي، الذي قاد وفدا صينيا لحضور المؤتمر، المبادئ الخمسة للتعايش السلمي. وأصبحت هذه المبادئ عنصرا مهما في روح باندونغ وقبلتها لاحقا الأغلبية العظمى من دول العالم باعتبارها الأعراف الأساسية الحاكمة للعلاقات الدولية والمبادئ الأساسية للقانون الدولي.

وكتب المؤرخ الأمريكي إيمانويل والرشتاين "يمكن النظر إلى مؤتمر باندونغ الذي عقد عام 1955 على أنه لحظة رمزية. وفي ذلك الوقت، قال العالم غير الغربي بصوت عال إن المؤتمر يجب أن يؤخذ على محمل الجد في سياسات العالم".

في الصورة الملتقطة يوم 14 أبريل 2024، نموذج لسفينة تابعة لشركة الهند الشرقية الهولندية خلال فترة الاستعمار في متحف جاكرتا التاريخي. (شينخوا)

-- "خيانة ورشوة ومذبحة وخسة"

إن الاستعمار كان نقطة البداية للتراكم البدائي لرأس المال في الغرب. غزا الاستعماريون الأوروبيون، الذين يؤمنون بتفوق العرق الأبيض وشريعة الغاب، إفريقيا والأمريكتين وآسيا، حيث ذبحوا ونهبوا بوحشية، ما تسبب في موجات من إراقة الدماء.

وفي عام 1619، استولت هولندا على جاياكارتا، المركز التجاري في جزيرة جاوة، وأعادت تسميتها باسم باتافيا، والتي هي جاكرتا اليوم. واتخذ الهولنديون باتافيا مقرا لشركة الهند الشرقية الهولندية في الشرق واستخدموها كمعقل لاستعمار إندونيسيا. وبحلول منتصف القرن الـ17، كان حجم تجارة الشركة يمثل ما يقرب من نصف إجمالي التجارة العالمية في ذلك الوقت.

وكتب كارل ماركس في كتابه بعنوان "رأس المال" إن "تاريخ إدارة هولندا الاستعمارية أحد أكثر العلاقات غير العادية التي شابتها الخيانة والرشوة والمذابح والخسة، فأينما وضعوا قدما، أعقبه خرابا وتهجيرا للسكان، حيث كان عدد سكان بانجوانجي، وهي مقاطعة في جاوة، أكثر من 80 ألف نسمة في عام 1750 قبل أن يصبح 18 ألف نسمة فقط في عام 1811".

وخلال تاريخها الممتد لما يقرب من 200 عام، تورطت الشركة في نحو 800 صراع مسلح كبير وصغير.

واشتهر جان بيترسون كوين، الذي شغل منصب الحاكم العام للشركة مرتين في سنواتها الأولى، بقساوته. ففي عام 1621، أمر كوين بذبح معظم سكان جزر باندا البالغ عددهم 15000 نسمة وذلك من أجل احتكار تجارة ثمار جوزة الطيب، ليطلق عليه السكان المحليون حينها لقب "جزار باندا".

وفي عام 1830، استحدثت السلطات الاستعمارية الهولندية "نظام زراعة" يطالب السكان المحليين باستخدام 20 بالمئة من أراضيهم لزراعة محاصيل التصدير النقدية مثل نبتة النيلة والقهوة والسكر. وقد صادرت السلطات الاستعمارية الكثير من الأراضي لدرجة أن السكان المحليين لم يكن لديهم أي أرض تقريبا لزراعة المحاصيل الغذائية، ما أدى إلى مجاعة جماعية.

وكتبت الكاتبة البريطانية إليزابيث بيساني في كتابها بعنوان "إندونيسيا، إلخ: استكشاف الأمة غير المحتملة" أن "الحكام الاستعماريين الهولنديين الذين استولوا على هذه الجزر، مثل شركة الهند الشرقية الهولندية في الماضي، كانوا جل اهتمامهم هو جني المال فقط ولم يهتموا بحياة السكان المحليين".

وتضيف الكاتبة "لقد قطعوا غابات سومطرة من أجل زراعة أشجار المطاط والكاكاو. وأزالوا الغابات في جاوة وسولاوسي وجزر أخرى للحصول على القهوة والشاي والسكر والتبغ. وتعاملوا مع الأراضي بقوة لحفر مناجم القصدير ومناجم الذهب والنفط. ولفترة من الزمن، استمد الهولنديون نصف دخلهم القومي من إندونيسيا".

وخلال أكثر من 300 عام من الحكم الاستعماري، لعب الهولنديون دائما دور الحيوانات المفترسة واتبعوا نهجا همجيا في قتل الإوز الذي يضع البيض الذهبي. وقد أدى ذلك إلى تطور غير طبيعي للاقتصاد الإندونيسي وقلصه بالكامل ليصبح مورد مواد خام للهولنديين.

-- رماح الخيزران

تم تشييد النصب التذكاري الذي يجسد نضال أهالي جاوة الغربية في شمال باندونغ، حيث جرى خصيصا تصميم 17 درجة سُلم من البازلت للنصب التذكاري، ومنصة يبلغ قطرها 45 مترا، وثمانية أعمدة حجرية شاهقة على شكل الخيزران، للاحتفال بيوم استقلال إندونيسيا في 17 أغسطس 1945.

وقال محمد ريكريك، الذي يروي قصة هذا النصب التذكاري، إن الخيزران يمثل الحرية في الثقافة السوندانية في جاوة الغربية. فقد تم بناء الأعمدة الحجرية على شكل رمح من الخيزران لأن رماح الخيزران كانت السلاح الأساسي الذي استخدمه الشعب الإندونيسي لمحاربة المستعمرين.

وفي النصف الأول من القرن العشرين، استيقظت الشعوب المضطهدة في آسيا تدريجيا، وأصبحت دعوات الإندونيسيين للاستقلال تعلو على نحو متزايد.

ففي عام 1908، تم تشكيل جمعية سياسية قومية محلية تسمى "بودي أوتومو". وفي عام 1912، تم تأسيس أول حزب سياسي وهو الجمعية الإسلامية.

وكتب فلاديمير لينين في مقالته بعنوان "صحوة آسيا" في عام 1913، أن "أحد التطورات المهمة هو انتشار الحركة الديمقراطية الثورية إلى الهند الشرقية الهولندية وإلى جاوة والمستعمرات الهولندية الأخرى، بعدد سكان نحو 40 مليون نسمة، مضيفا أن الاستبداد والطغيان القديمان للحكومة الهولندية يواجه الآن المقاومة الحازمة والاحتجاج القوي من جانب جماهير السكان الأصليين".

في الصورة الأرشيفية، الرئيس الإندونيسي الأول سوكارنو يصل إلى باندونغ لحضور مراسم افتتاح مؤتمر آسيا-إفريقيا، المعروف أيضا باسم مؤتمر باندونغ، الذي عقد في الفترة من 18 حتى 24 أبريل 1955. (شينخوا)

-- الديك يصيح مع إشراق الشمس

تم بناء ما يعرف بمتحف الاتهام الإندونيسي في باندونغ عام 1907، وقد استخدمته السلطات الاستعمارية الهولندية لأول مرة لمحاكمة الأشخاص المناهضين لهولندا.

وقال ديدي أحمد، الذي يروي قصة المتحف، "هذا هو المكان الذي خضع فيه سوكارنو للمحاكمة. وفي المحاكمة التي استمرت يومين، نجح سوكارنو في الدفاع عن نفسه".

وفي عام 1927، شكل سوكارنو وآخرون الجمعية الوطنية الإندونيسية، والتي أعيدت تسميتها فيما بعد تحت مسمى الحزب الوطني الإندونيسي، في محاولة لنيل الاستقلال الوطني. وبعد ذلك بعامين، اعتقلت السلطات الاستعمارية الهولندية سوكارنو بتهمة "إطلاق تمرد".

وفي أثناء المحاكمة، ألقى سوكارنو خطاب دفاع مطولا بعنوان "إندونيسيا توجه الاتهام"، حيث عدّد جرائم المستعمرين الهولنديين ودعا إلى النضال العادل للشعب الإندونيسي من أجل الاستقلال الوطني.

وقال سوكارنو في خطابه "في الواقع، الشمس لا تشرق لأن الديك يصيح، ولكن الديك يصيح لأن الشمس تشرق! والحقيقة هي أنه في إندونيسيا أيضا، ولدت الحركة الوطنية من رحم الإمبريالية، التي كانت تعبدها الطبقة الحاكمة، وخاصة من نظام تجفيف الينابيع الاقتصادي الذي يعمل في البلاد منذ قرون. فالإمبريالية هي المحرض الرئيسي والمجرم الرئيسي الذي يحرض على التمرد، لذلك يجب تقديم الإمبريالية إلى العدالة!".

وأثار صوت العدالة الذي أطلقه سوكارنو ردود فعل حماسية من الإندونيسيين، وسبب ذعرا لدى المستعمرين الهولنديين، حيث حُكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات وأُرسل إلى سجن باندونغ.

وأصبح سوكارنو أول رئيس لإندونيسيا بعد الاستقلال في عام 1945 وقاد الشعب الإندونيسي بنجاح لهزيمة محاولة المستعمرين الهولنديين إعادة استعمار إندونيسيا من خلال الحرب.

وأكد أن المستعمرين لن يكونوا على استعداد لقبول الهزيمة في آسيا وإفريقيا، ويجب على الدول المؤسسة حديثا أن تتحد لمعارضة الاستعمار والإمبريالية.

وفي عام 1955، عُقد المؤتمر الآسيوي-الإفريقي، الذي أطلقه سوكارنو وآخرون، بنجاح في شارع آسيا-إفريقيا، على بعد كيلومتر واحد فقط من موقع المحاكمة حيث تم إلقاء خطاب سوكارنو بعنوان "إندونيسيا توجه الاتهام"، وكان هذا المؤتمر رمزا لصحوة ووحدة شعوب آسيا وإفريقيا.

-- تنمية متبادلة

قال الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو "لقد شهدنا جميعا ظلم النظام الاقتصادي العالمي الحالي. علينا رفض التمييز التجاري. ويجب ألا تتم إعاقة التنمية الصناعية. علينا الاستمرار في دعم تعاون متساوٍ وشامل".

وفي أواخر أغسطس 2023، في اجتماع قادة البريكس في جوهانسبرج بجنوب إفريقيا، دعا ويدودو دول الجنوب العالمي إلى الاتحاد وحماية حقوقها في التنمية ومعارضة الإجراءات التي تعيق التقدم.

وفي 7 سبتمبر من العام الماضي، جرى تدشين محطة سكة حديد تيجالوار في باندونغ. إنها واحدة من المحطات الأربع التي تقع على طول خط سكة حديد جاكرتا-باندونغ فائق السرعة، وهو مشروع تاريخي في إطار مبادرة الحزام والطريق اشتركت إندونيسيا والصين في بنائه.

وقد أدى هذا الخط فائق السرعة إلى تقليص وقت السفر بين جاكرتا وباندونغ من أكثر من ثلاث ساعات ليصبح 40 دقيقة فقط، الأمر الذي عزز الأنشطة الاقتصادية وفرص العمل.

وقبل التشغيل التجاري لهذا الخط، قال ويدودو "إنني سعيد جدا والشعب الإندونيسي سعيد للغاية لأن خط السكة الحديد فائق السرعة لدينا هو الوحيد في جنوب شرق آسيا. وبفضل هذه البنية التحتية، يمكننا إرساء الأساس للتقدم. والشيء الأكثر أهمية يكمن في أن هذا الخط سيعزز كذلك القدرة التنافسية الوطنية لدى إندونيسيا".

وقال بامبانج سوريونو، رئيس مؤسسة (نانيانغ آسيان) للبحوث، ومقرها جاكرتا، إن الدول الغربية حققت تحديثها من خلال استعباد الدول الأخرى واستغلالها، ما أدى إلى تدمير شعوب تلك الدول.

وأضاف أنه "من خلال التضامن والتعاون مع الصين، تشارك إندونيسيا في البناء المشترك لمبادرة الحزام والطريق وتحقق التنمية المتبادلة. وهذا يثبت أن دول الجنوب العالمي يمكنها الشروع في مسار تنمية جديد".

-- يدا بيد، كتفا بكتف

في 22 أبريل 2015، ألقى الرئيس الصيني شي جين بينغ كلمة بعنوان "المضي قدما بروح باندونغ للتعاون المربح للجانبين" خلال القمة الآسيوية-الإفريقية التي عُقدت في إندونيسيا.

وفي كلمته، قال شي "قبل 60 عاما، حضر قادة 29 دولة آسيوية وإفريقية مؤتمر باندونغ، ما أدى إلى ولادة روح باندونغ للتضامن والصداقة والتعاون، وتحفيز حركة التحرر الوطني التي سادت آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتسريع العملية العالمية لإنهاء الاستعمار".

وقال شي إن "روح باندونغ في ظل الظروف الجديدة تحتفظ بحيوية قوية. علينا المضي قدما بروح باندونغ من خلال إثرائها بعناصر جديدة تتفق مع العصر المتغير، ومن خلال الدفع نحو نمط جديد من العلاقات الدولية التي تتميز بالتعاون المربح للجميع، ومن خلال تعزيز نظام دولي أكثر عدلا وإنصافا"، وكذلك من خلال بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية بغية تحقيق فوائد أكبر للشعوب في آسيا وإفريقيا وأجزاء أخرى من العالم.

وفي باندونغ اليوم، تنطلق قطارات خط سكة حديد جاكرتا-باندونغ بسرعة فائقة، لتجسد روح باندونغ المتمثلة في "التضامن والصداقة والتعاون" في العصر الجديد.

ولهذا الخط، كتب الموسيقار الإندونيسي آندي تشيو أغنية بعنوان "تحرك للأمام لتحقيق أحلامك". وتقول كلمات الأغنية "يدا بيد، كتفا بكتف، طالما أننا متحدون، لا شيء مستحيل".

تحرير: تشن لو يي